فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ مجاهد: {يَوْمَ يَدْعُو} بالياء آخر الحروف أي يدعو الله تعالى أو الملك، والحسن في رواية {يدعى} بالبناء للمفعول ورفع {كُلٌّ} على النيابة عن الفاعل، وفي رواية أخرى {يَدْعُواْ} بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع {كُلٌّ} وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول: إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفًا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوًا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجرى هنا الوصل مجرى الوقف.
ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واوًا لغة مطلقًا، والثاني: أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكمة والنون محذوفة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولي عليكم» في قول، وكذا في قول الشاعر:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي ** وجهك بالعنبر والمسك الذكي

وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرًا وأن تكون علامة جمع على الصحيح، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية، وفي توجيه رفع {كُلٌّ} على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو {فَمَنْ أُوتِىَ} يومئذ من أولئك المدعوين {كتابه} صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها {بِيَمِينِهِ} إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفًا لصاحبه وتبشيرًا له من أول الأمر بما في مطاويه {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل، وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم عل أوجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء، نعم جاء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردًا يأتي أصحابه ويقول: {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقة: 19] فيجتمعون عليه ويقرؤه هو أيضًا معهم تلذذًا به لكن لم نجد في ذلك أثرًا ومع هذا لا يجدي نفعًا فيما أراد القائل، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين {يَقْرَءونَ} ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا {كتابهم} الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها.
وقيل يقرؤنه تبججًا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء {وَلاَ يُظْلَمُونَ} أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة {فَتِيلًا} أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا.
لكن أخرج العقيلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث الله تعالى ريحًا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 41]» وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين.
نعم جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: «أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب» وهو مؤيد بظاهره الخبر الساب قوالله تعالى أعلم.
وجاء في بعض الآثار أن أول من يأتي كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن الأسد وأول من يؤتي كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك، وسبب ذلك مذكور في السير.
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}.
{وَمَن كَانَ} من المدعوين المذكورين {فِى هذه} الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل {أعمى} لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الايمان والعمل {فَهُوَ في الآخرة} التي عبر عنها بـ {يوم ندعو} [الإسراء: 71] {أعمى} لا يهتدي أيضًا إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر.
وجوز أن يكون {أعمى} الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله، وبنى على ذلك إمالة أبي عمرو والأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمارة في الأواخر وهي في الثاني على تقدير كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور غير معرف باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمارة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة.
وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمارة {أدنى مِن ذَلِكَ} [المجادلة: 7] و{الكافرين} وأن حمزة والكسائي.
وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال: إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أو الإمارة فيما يرونه كذلك للمشاكلة.
وقال بعض المحققين: إنه لما أريد افتراق معني الأعمى في الموضعين افترق اللفظان إمالة وتفخيمًا وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول، ولا يظن بأبي على أنه يقول بامتناع الإمارة وإنما يقول بأولوية التفخيم.
وقال بعضهم: إن كان العمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال، وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال: إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الإلباس بالوصف موجودة فيه فتدبر، وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له، ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين} [الواقعة: 92] بعد قوله سبحانه: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 90] وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلًا على شهادة العقل، وجعله ابن المنير مقابلًا للقسم الأول على معنى {فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} [الإسراء: 71] فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر في كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر.
ويشعر أيضًا بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث، نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإم لم تقرر المقابلة بما ذكر؛ هذا وعن أبي مسلم تفسير {أعمى} الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كل في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] الآية، وتأول {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] بالعلم والمعرفة، وعنه أيضًا تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالًا فهو في الآخرة مغموم جدًا فإن من لا يرى إلا ما يسوؤه والأعمى سواء، وهذا كما يقال: فلان سخين العين وهو كما ترى.
وقيل: إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعمة وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلًا، واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي.
وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى فَهُوَ في الآخرة أعمى} فقال ابن عباس: لم تصل المسئلة اقرأ ما قبلها: {رَبُّكم الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك في البحر} [الإسراء: 66] حتى بلغ {وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] ثم قال: من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلًا.
وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية: يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا يقول سبحانه أبعد حجة.
وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه، ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جدًا وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي: بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما، وتحصيلها: {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} أي: عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده.
تنبيه:
ظاهر قوله تعالى: {على كثير} أن ثمة من لم يفضل البشر عليه. قيل: وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى. أعني الملائكة.
قال القاشانِيِّ: وأما أفضلية بعض الناس، كالأنبياء على الملائكة المقربين، فليست من جهة كونهم بني آدم. بل من جهة السر المودع فيهم، المشار إليه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة. وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ** فلي فيه معنى شاهدٌ بأُبُوَّتِي

وذهب قوم إلى تأويل الكثير بالكل كما أوَّل القليل بمعنى العدم في قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]. والمعنى: وفضلناهم على الجم الغفير من خلقنا، أي: جميع المخلوقات.
قال القاشانِيِّ: على أن تكون {من} للبيان والمبالغة في تعظيمه، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف. أي: كثير، وأي كثير، وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة {من} على العموم، ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر. والمسألة معروفة في كتب الكلام.
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي: بمن ائتموا به من نَبِيٍّ أو مُقَدَّمٍ في الدين أو كتاب أو دين. فيقال: يا أتباع فلان! يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير! ويا أصحاب كتاب الشر! قالوا: وفيه شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال القاشانِيِّ: أي: نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه، سواء كان صورة نبي آمنوا به، أو إمام اقتدوا به، أو دين أو كتاب، أو ما شئت. على أن تكون الباء بمعنى مع أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه؛ لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم.
ورجح ابن كثير، رحمه الله، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال، لقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] الآية، وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28- 29]. وما رجحه رحمه الله هو الصواب؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات، هو الرجوع إلى نظائرها. وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ} أي: من هؤلاء المدعوين: {كِتَابَهُ} أي: كتاب أعماله: {بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ} أي: فرحًا وابتهاجًا بما فيه من العمل الصالح: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي: لا ينقصوه من أجورهم قدر فتيل، وهو ما في شق النواة، أو ما تفتله بين أصبعيك، أو هو أدنى شيء، فإن الفتيل مثل في القلة، كقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60].
{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي: ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلًا منه في الدنيا؛ لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابًا يمكنه الاهتداء بها. وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد. ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل: العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات؛ لفساد حاسته، مجازٌ في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة. وقيل: هو حقيقة فيهما. وعليه جوَّز أن يكون {أعمى} الثاني أفعل تفضيل؛ لأنه من عمى القلب لا عمى البصر. ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله.
لطيفة:
قال الناصر: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى. أي: فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه. ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه، ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك، غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه، أو أشد عمى مما كان في الدنيا، على اختلاف التأويلين. اهـ.